--------------------------------------------------------------------------------
لقد وقفت العلماء وقفات عديدة أمام المراد من قوله تعالى : وعلم ءادم الأسماء كلها
وهناك سؤال يطرح نفسه : لماذا خُصت الأسماء بالذكر في قوله تعالى : وعلم ءادم الأسماء كلها دون ذكر الأفعال أو الحروف ؟
ليس لدي جواب مقطوع به أو رواية مقطوع بها في هذا الأمر ، فكل ماقيل في كتب التفسير عن المراد بالأسماء اجتهاد بالرأي ، وليس فيه نص قطعي الثبوت ، وقد بحث العلماء المراد بالأسماء ، وجميعهم يتفقون على أن المراد بالأسماء أسماء الذوات أو المسميات ، لكنهم اختلفوا في الأشياء التي تعلم ءادم أسماءها ، هل هي أسماء كل شيء وقع بصره عليه ، أم أسماء ذريته أم غير ذلك ؟
وقد رجح ابن كثير الرأي الأول : " والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذواتها وصفاتها وأفعالها " {1}. وجاء في الإصحاح الثاني من العهد القديم : " وجبل الرب الإله من الأرض كل حيوانات البرية وكل طيور السماء ، فأحضرها إلى ءادم ليرى ماذا يدعوها ، وكل ما دعا به ءادم ذات نفس حية فهو اسمها ، فدعا ءادم بأسماء جميع البهائم وطيور السماء وجميع حيوانات البرية " {2} .
وليست قضيتنا بحث المقصود بالأسماء أو ماترمز إليه ، لكن الذي يهمنا في هذا المقام هو ما أغفل عنه كثير ممن بحث المراد بالأسماء ، ألا وهو لماذا علم الله تعالى ءادم الأسماء وخصها بالذكر دون عنصرين آخرين من مكونات اللغة ، وهما الأفعال والحروف ، وهل المراد بالأسماء عين الأسماء أو الرموز التي يبحثها علماء النحو ضمن مكونات الكلام أم المراد بها شيئًا ءاخر لانعلمه ؟
ليس أمامنا سوى أن نأخذ بالمتاح لنا من علم في ذلك ، وهو ماجاء عن بعض المفسرين أن المراد بها الرموز التي تشير إلى أعيان أو موضوعات أشياء حسية أو معنوية ، ولكن لماذا اختصها الله تعالى بالذكر من بين مكونات الكلام الأفعال والحروف ؟
وقد نجد جوابًا شافيًا في كلام العلماء في حديثهم عن الأسماء ، وأسبق ماقيل في هذا الشأن ماقاله ابن سينا في حديثه عن اكتساب اللغة من خلال تصوره لهيئات الأشياء الحسية ، فترتسم صورها في النفس على نحو ما أداه الحس ، ثم تتحول هذه الصور المرتسمة في النفس إلى معان مجردة ، فقد انقلبت الأشياء المرتسمات في الحس عن هيئتها المحسوسة إلى التجريد ، ثم رمز الإنسان إلى تلك المعاني المجردة في نفسه برموز صوتية يستطيع الإنسان التلفظ بها ، ليعرب عما في نفسه ، ويحقق مقاصده {3} .
وقد أشارت الآية الكريمة أن ءادم عليه السلام تلقى أسماء الأشياء التي تعلم أسماءها وحيًا ، فقد نسب الله تعالى تعليم ءادم إلى ذاته العلية ، فقال : وعلم ءادم . ولاشك أن ءادم هبط إلى عالم لم ينشأ فيه غير مألوف إليه ويحتاج إلى اكتساب معلومات عنه ، فعلمه الوحي مايحتاج إليه ، للتعرف على مسميات هذا العالم بظروفه القاسية والمعاناة التي لم يألفها ءادم من قبل .
واللغة يتلقاها الإنسان تعليمًا وتدريبًا وتلقينًا ، فالطفل لايتكلم اللغة إلا بعد أن تكتمل لديه أعضاء النطق وتقوى على الأداء ، ثم يتدرب على نطق بعض الكلمات السهلة أولًا ، وهي الأسماء المألوفة دون الأفعال ، وخاصة الأسماء التي تستخدم في محيط الأسرة ، مثل أسماء الأب والأم والإخوة ، وهذا يعني أن الأسماء تأتي أولًا ، ثم الأفعال ، وأن اللغة تبدأ بالأسماء ثم تصنع منها صيغ الأفعال ، مثل صناعتنا أفعال من أسماء دخيلة وجامدة ، نحو : مغناطيس : مغنط ، تلفزيون : تلفز ، والجامد مثل : أسماء الأفعال الجامدة نحو : آه : تأوه ، وأف : تأفف ، ومثل اشتقاق صيغ أفعال من الأصوات ، نحو : عوى من العواء ، وزأر من الزئير ، وموأ من مواء القطة ، وهبهب من صوت الكلب ، وتف من صوت البصق .......إلخ .
والطفل في بدء تعلمه يحاكي الأصوات أولًا ويتعرف على الناطق أو ماله صوت ، ثم يتعرف على الساكن ، ومن الحقائق العلمية أن الطفل لايستطيع أن يكتسب القدرة على نطق أصوات أي لغة من اللغات إلا من خلال تعلم المسميات أولًا ، والآية الكريمة وعلم ءادم الأسماء كلها تؤكد أن نشأة نطق أصوات لغة الكلام متصلة اتصالًا مباشرًا بنشأة وتطور الإنسان والبشرية ، وقد خصت الآية الكريمة الأسماء بالذكر دون بقية مكونات اللغة ( الأفعال ، والحروف ) وهي المرحلة الأولى من تعلم اللغة بعد أن هبط ءادم إلى الأرض .
وقد أفرد السيوطي مكانًا في كتابه " الأشباه والنظائر في النحو " نقل فيه عن بعض العلماء أن الاسم أصل للفعل والحرف ، ونقل عن عمر بن محمد الشلوبين الأندلسي (ت645هـ) الذي رأى أن الاسم أصل للفعل والحرف ، " ولذلك جعل فيه التنوين دونهما ليدل على أنه أصل ، وأنهما فرعان ، قال : وإنما قلنا إن الاسم إصل والفعل والحرف فرعان ؛ لأن الكلام المفيد لايخلو من الاسم أصلًا ، ويوجد كلام مفيد كثير لايكون فيه فعل ولا حرف ، فدل ذلك على أصالة الاسم في الكلام وفرعية الفعل والحرف فيه ، وأيضًا فإن الاسم يخبر به ويخبر عنه ، والفعل لا يكون إلا مخبرًا به ، والحرف لا يخبر به ولا يخبر عنه ، فلما كان الاسم من الثلاثة هو الذي يخبر به ويخبر عنه دون الفعل والحرف دل ذلك على أنه أصل في الكلام دونهما " {4} .
وذلك أن الأفعال أحداث الأسماء ، أما الحروف ، فإنما تدخل على الأسماء والأفعال لمعان تحدث فيها ، وإعراب تؤثره ، وقد دللنا على أن الأسماء سابقة للإعراب ، والإعراب داخل عليها " {5} .
وهذا هو مبلغ علمنا ولا نستطيع أن نزيد على ذلك تخرصًا التوقيــــــــــــع